تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قبل زيارة البابا… الوجود المسيحيّ في تركيا تحت المجهر

اسطنبول

اسطنبول - مع اقتراب رحلة البابا إلى تركيا بعد نحو شهر، احتدمت النقاشات على المنصّات الرقمية بين متسائلٍ ومتعجّب: «زيارة دولة مسلمة؟ ولماذا؟». تساؤلاتٌ تكشف أحيانًا غياب الوعي بجذور مسيحية ضاربة في عمق هذه الأرض، حيث وُلدت الكنائس الأولى وتجلّت أسماء الرسل والقدّيسين. في ما يلي نظرة شاملة على الحضور المسيحي في تركيا، وماضيه العريق وحاضره الحيّ والمقلق.

تُعدّ تركيا موطنًا لبعض من أقدم الجماعات المسيحية في العالم؛ من أفسس القديمة، حيث بشّر الرسول بولس بالإنجيل، إلى كنائس الكهوف في كابادوكيا، حيث احتمى المؤمنون الأوائل من الاضطهاد، تمتدّ خيوط التاريخ لتروي حكاية أرضٍ تماهى ترابها مع بدايات المسيحية.

كما تبرز تركيا بوصفها أرضًا عرفت أهمّ المجامع المسكونيّة التي صاغت عقيدة الإيمان المسيحيّ. ففي أنطاكيا تأسّست إحدى أولى الجماعات المسيحيّة، ومنها انطلقت البشارة إلى العالم. وفي نيقيا عُقد في العام 325 المجمع الذي أقرّ قانون الإيمان النيقاوي، الحجر الأساس للعقيدة المسيحيّة. ثمّ تلاه مجمع القسطنطينيّة سنة 381 الذي أكّد ألوهيّة الروح القدس، ومجمع أفسس سنة 431 الذي أعلن مريم العذراء والدة الإله، ومجمع خلقيدونيا سنة 451 الذي حدّد الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة للمسيح.

ولا يكتمل الحديث من دون ذكر الشخصيّات والمراكز التي وسمت تاريخ المسيحيّة في هذه الأرض المباركة: القدّيس يوحنّا الحبيب الذي أمضى سنواته الأخيرة في أفسس، ومنطقة طور عبدين في جنوب شرق تركيا التي تُعدّ قلب التقليد السريانيّ الأرثوذكسيّ، حيث لا تزال جماعات تتكلّم الآراميّة حتى اليوم. كما تحتفظ مدينتا ماردين وميديات بثراءٍ فريدٍ من الأديرة السريانيّة وإرثٍ روحيٍّ عريقٍ يشهد على عمق الجذور المسيحيّة في هذه البلاد.

وأخيرًا، عرَضَ فريقٌ من علماء الآثار في جنوب تركيا اكتشافًا فريدًا: خمسة أرغفة صغيرةٍ مستديرة يُرجَّح أنّها كانت مُخصَّصة للإفخارستيا، تعود إلى أكثر من 1300 عام، أحدها يحمل صورةً ليسوع المسيح نفسه.

لكن في مقابل هذا الإرث المسيحيّ العريق، ثمّة فصلٌ مؤلم من التاريخ. فتركيا التي كانت يومًا مهدًا للمسيحيّة، تحوّلت عبر القرون إلى أرضٍ شهدت اضطهادًا واسعًا للمسيحيّين، وموجاتٍ من التهجير، وطمسًا للهويّة الدينيّة، إذ هُدمت الأديرة، وتعرّضت الكنائس للتخريب أو حُوّلت إلى مساجد، في محاولةٍ لمحو الذاكرة المسيحيّة من المشهد العام. هكذا، أساءت تركيا إلى هذا الغنى الروحيّ العظيم الذي كان يمكن أن يكون أحد أجمل وجوهها أمام العالم.

ومع ذلك، وعلى الرغم من كلّ ما فُقد، لا تزال شعلة الإيمان حاضرة. وما زالت جماعاتٌ مسيحيّة صغيرة تُصلّي وتُبقي جذوة الرجاء حيّة في كنائس إسطنبول وماردين وطور عبدين. وفي زيارته المرتقبة، يأتي البابا ليون ليرى هذا الحضور الصامد وهذا الإيمان الذي لم تستطع القرون ولا الجراح أن تطفئه.

المصدر: رومي الهبر، آسي مينا.