القاهرة - شرع الكلدان يقصدون مصر منذ أواسط القرن الثامن عشر بغية العمل والتجارة، ليشهد القرن التالي بداية حضورهم المؤثِّر والموثَّق، منتهزين أجواء الاستقرار والانفتاح على العالم المتزامن مع حكم محمّد علي، مؤسّس مصر الحديثة. وتزايدت أعدادهم في ظلّ تفاقم اضطهاد العثمانيّين للمسيحيّين، لتبلغ الذروة مع قوافل الهاربين من أهوال الحرب العالميّة الأولى ومجازر سيفو.
سرعان ما تطلَّب حضورهم القويّ بناء كنيسةٍ، فشهد العام 1890 وضع الحجر الأساس لأوّل كنيسة كلدانيّة في حيّ الفجّالة بالعاصمة القاهرة، حملت اسم مار أنطونيوس الكبير، وشرعت تخدم المؤمنين وتحتضن القداديس والرّتَب الطقسيّة الكلدانيّة عقب تكريسها في العام 1893، وفق ما قال الخورأسقف بولس ساتي، المدبِّر البطريركيّ للكلدان ورئيس الطائفة في مصر، في حديثه. وأوضح أنّ الكنيسة شُيّدت بتبرّعٍ سخيّ من المحسنة هيلانة موصلّي، لراحة نفس زوجها أنطوان بغدادي، وتبرّعت أيضًا لبناء المدرسة اليوسفيّة، وكنيسةٍ ومدرسةٍ أخريَين في العراق، بحسب وثائق الإيبارشيّة.
واجه البطريرك الكلدانيّ إيليّا عبّو اليونان (1879-1894) معارضةً شديدة من الفاتيكان لدى بناء الكنيسة، وبخاصّةٍ بشأن تأسيسه النيابة البطريركيّة الكلدانيّة في مصر وتعيين الخورأسقف بطرس عابد أوّل مدبِّر بطريركيّ ليُنظّم شؤونها ويرسي قواعد مؤسّساتها، نظرًا إلى وقوعها خارج الرقعة البطريركيّة الكلدانيّة وخارج سلطة البطريرك المباشرة حينئذٍ.
ولفت ساتي إلى أنّ كلدان مصر اليوم هم أحفاد الكلدان الأوائل القادمين من العراق وسوريا وتركيا، لكنّهم اليوم مصريّون فخورون بانتمائهم الوطنيّ وفاعلون في خدمة وطنهم ومجتمعهم. وبيَّنَ أنّ إيبارشيّته لا تمتلك إحصاءاتٍ دقيقة بشأن عدد أبنائها المنتشرين في أنحاء البلاد، مستدركًا: «نُفاجأ مرارًا بكثيرين من أبنائنا يراجعوننا لاستصدار شهاداتٍ أو للاحتفال بسرَّي المعموديّة والزواج وفي حالات الوفاة وسواها». وأرجَع تراجع أعداد الكلدان اليوم إلى قرابة مئة عائلة، بحسب تقديراته، إلى انفتاحهم على الزواج من خارج الطائفة وعدم تزمّتهم في التزام زواجاتٍ داخليّة، ما أدّى إلى ذوبانهم، لكنّ «أبوابنا مفتوحة أمام كلّ من يرغب في الانتماء إلى الطائفة، وهذا كثيرًا ما يحصل».
يجتهد ساتي في الحفاظ على الهويّة الكلدانيّة وتنشيط روح الانتماء لدى أبناء إيبارشيّته، داعيًا إلى تكريسه والافتخار به، لا سيّما عبر تنظيم فعاليّة «يوم كلدان مصر» المتواصلة منذ أربعة أعوام. وللأبرشيّة كنائس عدّة، إلى جانب كنيسة مار أنطونيوس الكبير: بازليك سيّدة فاطيما في القاهرة، وهي مقرّ الكرسيّ الأسقفيّ منذ تأسيسه في العام 1980، كابيلا العائلة المقدّسة في مدافن الطائفة، وكنيستان في الإسكندريّة.
إلى جانب خدماتها الروحيّة، تُنظّم الكنيسة أنشطةً متميّزة لشبيبتها وعائلاتها، وأسّست فريق كشّافة العذراء سيّدة فاطيما، ولديها مؤسّسات خيريّة عدّة، أبرزها دار رعاية المسنّات، وتسعى إلى استعادة مدرستَين تملكهما أوقافها. وهي عضوٌ في هيئة أوقاف الكنيسة الكاثوليكيّة، وتفتخر بإسهامها في صياغة قانون الأحوال الشخصيّة للكنيسة الكاثوليكيّة.
دائمًا ما كانت أبواب الكنيسة الكلدانيّة مشرَّعة أمام المؤمنين والزائرين والحجّاج، ويبقى حضور أبنائها المؤثِّر والفاعل في مصر علامةً بارزة للتنوّع الثقافيّ والدينيّ في البلاد، وشهادةً لإيمانهم المشرقيّ وإبرازًا لهويّتهم الكلدانيّة.
المصدر: جورجينا حبابة، آسي مينا.