
كتب الأب لويس حزبون:
النص الإنجيلي (يوحنا 14: 1-12)
لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً. 2 في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟ 3 وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقاماً أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون. 4 أَنتُم تَعرِفونَ الطَّريقَ إلى حَيثُ أَنا ذاهِب)). 5 قالَ له توما: ((يا ربّ، إِنَّنا لا نَعرِفُ إلى أَينَ تَذهَب، فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟)) 6 قالَ له يسوع: ((أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي. 7 فلَو كُنتُم تَعرِفوني لَعَرفتُم أَبي أَيضاً. مُنذُ الآنَ تَعرِفونَه وقَد رأَيتُموه)). 8 قالَ له فيلِبُّس: ((يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا)). 9 قالَ له يسوع: ((إِنِّي معَكم مُنذُ وَقتٍ طَويل، أَفلا تَعرِفُني، يا فيلِبُّس؟ مَن رآني رأَى الآب. فكَيفَ تَقولُ: أَرِنا الآب؟ 10 أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟ إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي بلِ الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه. 11 صَدِّقوني: إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ وإِذا كُنتُم لا تُصَدِّقوني فصَدِّقوا مِن أَجْلِ تِلكَ الأَعمال. 12 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ بي يَعمَلُ هو أَيضاً الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها أَنا بل يَعمَلُ أَعظَمَ مِنها لأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب.
مقدمة
وصف يوحنا في الجزء الثاني من إنجيله "كتاب المجد أو الألم " رحيل سيدنا يسوع المسيح عن تلاميذه إلى بيت أبيه السماوي في خطاب الوداع في عِليَّة صهيون بعد العشاء الأخير (يوحنا 13: 1-17: 26) مُستبقًا بكلامه وأفعاله ما عاشه في سرّ حبِّه بموته وقيامته، وذلك ليُعَّد لهم ولنا مُقاماً كونه الطَّريق والحَقّ والحَياة؛ وهذا هو سر قوة المسيح والمؤمنين به، يُعلق القدّيس توما الأكوينيّ "إنّ الرّب يسوع هو في الوقت نفسه الطّريق والغاية: الطّريق بحسب إنسانيّته، والهدف بحسب ألوهيّته. هكذا، وبكونه إنسانًا، يقول: "أَنا الطَّريقُ"، وبكونه الله يضيف قائلاً: "أَنا الحَقُّ والحَياة"(شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 1-12)
1 لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً.
تشير عبارة "لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم" إلى تشديد يسوع عزائم تلاميذه وتشجيعهم وتعزيتهم تجاه القلق الذي أستحوذ عليهم لدى سماعهم خبر رحيله عنهم (يوحنا 16: 5-6) وشعورهم بغياب معلمهم وإحساسهم بالألم والفراغ، وإنبائهم بوقوع الاضطهاد عليهم (مرقس 10: 30)، وبقائهم في عالم مُعادٍ لهم "كالخِرافِ بَينَ الذِّئاب". وقد أحبُّوه وتعلقوا به (يوحنا 17: 7)، وكانوا ينتظرون منه إظهار قدرته، كما قال تلميذي عِمَّاوُس "كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل" (لوقا 24: 21). ليدعو يسوع تلاميذه إلى الثقة بالآب وفيه أيضًا. أمَّا عبارة "تَضْطَرِبْ" في الأصل اليوناني ταρασσέσθω (معناها يضطرب) فتشير إلى ارتباك بل إلى انقلاب كامل وضياع تام، ويستعمل هذا الفعل للدلالة على ثوران أمواج البحر، وحركة الأمواج المُضَّطربة حينما تعصف بها الرياح وتبدأ بالتلاطم شرقاً وغرباً. وينشأ الاضطراب في الإنسان من الخوف من المجهول أو بسبب شدة الحزن أو العزلة. وهذا ما كان ينتاب التلاميذ، من قلق وخوف وغم وضياع؛ ويظهر ذلك من تساؤلاتهم: بطرس يتساءل "يا ربّ، إلى أَينَ تَذهَب؟ "(يوحنا 13: 36)، وتوما "يا ربّ، إِنَّنا لا نَعرِفُ إلى أَينَ تَذهَب، فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟ "(يوحنا 14: 5) وفيلِبُّس" يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" (يوحنا 14: 8)، فقلوبهم مفعمة بالمخاوف والهموم والاضطراب، بالإضافة ما سمعوه مِن أنَّ واحدًا من التلاميذ ينكره، وآخر يُسلمه، وأنَّه سيفارقهم، بل سمعوا أنه سيموت، فانتابهم شعور بخيبة الأمل من عدم قيام المملكة التي كانوا يتوقعونها؛ وها هي أمالهم تنهار. أمَّا علاج الاضطراب هو الإيمان الذي يُجلب السَّلام ويهب النفس بصيرتها. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: "قدَّم لهم السيد الحديث التالي لينزع ما في نفوسهم من اضْطِراب، ويفتح أمامهم أبواب الرجاء للتمتع بالسماء!". يسوع لا يقف مُتفرجا أو مكتوفَ الأيدي، بل يتجاوب مع مشاعر التلاميذ وقلقهم ، وما من قوة أرضية تقدر أن تحل محل قوة المسيح، فلا خوف على المؤمنين؛ أمَّا عبارة " قُلوبُكم" فتشير إلى مصدر الشعور والعواطف؛ أمَّا عبارة " تُؤمِنونَ بِاللهِ " فتشير إلى ثقةٍ مبنيَّةٍ على الله الذي يتجلَّى بمنح عونه للمؤمن كي يتغلب على القلق؛ ومن هذا المنطلق يُمكننا القول أنَّ الوسيلة الأولى لعلاج الاضطراب هي الإيمان بالله وبشخص يسوع المسيح ابنه المُبارك، فالاضطراب هو الدَّاء للقلب والإيمان بالله هو الدواء ؛ أمَّا عبارة "آمِنوا بي " فتشير إلى دعوة يسوع للإيمان بشخصه، وبحضوره معهم وقوته ومحبته لهم إيمانًا شبيهًا بإيمانهم بالله عزّ وجلّ، وهي دعوة إلى إيمان عميق به يحمل في طَيّاته الثقة والطُمأنينة، إذ هو الابن المُتجسد "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا" (يوحنا 1: 14). والإيمان هو أساس الاطْمِئنان والأمَان والسَّلام، كما قال أشعيا " إِن لم تُؤمِنوا فلَن تأمَنوا" (أشعيا 7: 9). والسَّلام الحقيقي هو السَّلام الذي ينبع من الإيمان متجاوزٍ كل قلقٍ واضطرابٍ. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمات يسوع قائلا:" كأنه يقول: "يجب أن تعبر هذه الشدائد كلها، لأنَّ الإيمان بي وبأبي السماوي هو أقوى اقتدارًا من المصائب الواردة عليكم، ولا يسمح لأي شر أن يغلبكم". قدّم السيد المسيح الإيمان به كعلاجٍ عمليٍ للمُعاناة من القلق والاضطراب. وأمَّا عبارة "تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً" فتشير إلى مساواته للآب واتحاده به في المقصد والعمل مِمَّا يدل على وجود "إله واحد الآب، لكنه يسوع يُميِّز نفسه عن سرِّ الإله الواحد. وهو ليس بإلهٍ ثانٍ، ولا بالإله المُنفرد. فهو لا يقدر أن ينفصل عنه، ولا أن يندمج فيه" كما يُعلق القديس إيلاريون أسقف پواتييه. طلب يسوع من تلاميذه أن يضعوا رجاءهم في الله وفيه أيضًا حتى لا يتزعزع إيمانهم وقت الاضطهاد (متى 16:10-22). بل يليق بهم أن يؤمنوا ويتعرَّفوا على سرِّ الحب الإلهي". فالإيمان بالمسيح هو أول تعزية ودواء لجميع اضطرابات النفس.
2 في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟
تشير عبارة "بَيتِ" في الأصل اليونانيοἰκίᾳ (معناها بيت) إلى المكان الذي يُقيم فيه الإنسان إقامة ثابتة ، ولذلك أطلقت هذه الكلمة على الهيكل، الذي يقيم فيه الله وسط شعبه (خروج 33: 7 )؛ أمَّا عبارة " بَيتِ أَبي" فتشير إلى بيت الله الذي في السماوات حيث يظهر مجده بأكثر البهاء والجلال، كما ورد في كلمات موسى النبي "تَطلعَ مِن مَسكِنِ قُدْسِكَ مِنَ السَّماء" (تثنية الاشتراع 26: 15)، وَفقا لِمَا علَّمنا المسيح في الصلاة الرَّبّانية "أَبانا الَّذي في السَّمَوات" (متى 6: 9)، وهذا دليل على سمو الوجود الإلهي. وهذا تعزية لنا جميعًا، إذ نعلم من يسوع أنَّ السَّماء بيت أبينا فهي بالتالي وطننا. أمَّا عبارة " مَنازِلُ كثيرة " فتشير إلى مملكة المَجْد الأبدي عوضاً عن المملكة الزمنية؛ أمَّا عبارة " مَنازِلُ " في الأصل اليوناني μοναὶ (معناها المكان الذي ننزل فيه بعد مسير أو رحيل) فتشير إلى سعة السَّماء لهم وسائر المَفْديِّين مع كل جند الملائكة حيث هناك مساكن دائمة وإقامة مستمرة وأماكن راحة نقيم فيها نهائيًا بعد الغربة على هذه الأرض، كما جاء في تعليم بولس الرسول "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّه إِذا هُدِمَ بَيتُنا الأَرْضِيّ، وما هو إِلاَّ خَيمَة، فلَنا في السَّمَواتِ مَسكِنٌ مِن صُنعِ الله، بَيتٌ أَبَدِيٌّ لم تَصنَعْه الأَيْدي" (2قورنتس 1:5). وبعبارة أخرى، هنا على الأرض شِدَّة وضِيق لنا، لكن هناك في السَّماء مكان مجد وراحة ابديه؛ أمَّا عبارة " ولَو لم تَكُنْ " في ألأصل اليوناني εἰ δὲ μή (معناها وإلاَّ) فتشير إلى لو كان انفصالنا أبديًا فلا يمكن أننا نجتمع في السَّماء ونسكن معا في منازلها. أمَّا عبارة " أَتُراني قُلتُ لَكم " فتشير بلا ريب إلى قول يسوع بانَّه لن يترك يسوع تلاميذه يتوقعون ما لا يوجد. أمَّا عبارة "إِنِّي ذاهِبٌ" في الأصل اليوناني πορεύομαι (معناها يمضي) فتشير إلى صيغة الفعل الحاضر، وهو أول من يذهب إلى السَّماء، ويوضّح صاحب الرسالة إلى العبرانيين "دَخَلَ يسوعُ مِن أَجْلِنا سابِقًا لَنا " (العبرانيين 6: 20). يذهب يسوع منفردًا، لأنَّه هو وحده الذي يستطيع أن ينتصر على الموت من خلال موته على الصليب طاعةً للآب ومحبة ًللبشر. لذلك يُمكننا أن تثق في أنَّ يسوع سيعبر من هذا العالم إلى الآب السماوي ليفتح لنا بابَ السَّماء؛ أمَّا عبارة "لأُعِدَّ " ἑτοιμάσαι فتشير إلى صيغة فعل المستقبل حيث يَعد يسوع تلاميذ بإعداده لهم مكانًا في البيت الأبوي السماوي، لأنَّه اعتبرهم أبناء الله، فقد قال يسوع " العَبدُ لا يُقيمُ في البَيتِ دائِماً أَبَداً بلِ الابنُ يُقيمُ فيه لِلأَبَد" (يوحنا 8: 35)، وقد اعدَّ ذلك بموته على الصليب وشفاعته لنا في السَّماء " دَخَلَ القُدْسَ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ التُّيوسِ والعُجول، بل بِدَمِه، فحَصَلَ على فِداءٍ أَبَدِيّ " (العبرانيين 9: 12) أمَّا عبارة " مُقاماً" إلى المكان الذي فقده الإنسان بسبب الخطيئة، والذي يُعيده يسوع مجاناً، آخِذاً على عاتقه، على الصليب ". ويعلق المطران بيير باتيستا "هذا المُقام هو عطية العلاقة بالآب المتاحة للجميع". ويوضّح بولس الرسول أنَّ هدف هذا المُقام "لِيكونَ اللّهُ كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء" (1 قورنتس 15: 28).
3وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقاماً أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون.
تشير عبارة "أَعددتُ لَكُم مُقاماً" إلى ضمان يسوع لجميع المؤمنين إمكانية الثبات للأبد في الاتحاد بالآب، كما جاء في إنجيل يوحنا: "لنرى "مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ "(يوحنا 1: 14)؛ أمَّا عبارة " مُقاماً" فتشير إلى المكان حيث هو مقيم (يوحنا 17: 24) أي في دخول في علاقة مع الآب السماوي. نحن مدعوون للعيش هناك، حيث من يرى الابن يرى الآب أيضا. أمَّا عبارة "أَرجعُ" في الأصل اليوناني πάλιν ἔρχομαι (معناها أجيء من جديد) فتشير إلى صيغة المستقبل أي المجيء الثاني للسيد المسيح. أمَّا عبارة "آخذكم إليَّ" في اليونانية παραλήμψομαι ὑμᾶς فتشير إلى استقبال يسوع لتلاميذه وضمِّهم إليه ممَّا يدلُّ على فيضٍ من حُبِّه وشوقه وانجذابه فأصبحوا من أهل بيت الله، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَستُم إِذاً بَعدَ اليَومِ غُرَباءَ أَو نُزَلاء، بل أَنتُم مِن أَبناءَ وَطَنِ القِدِّيسين ومِن أَهْلِ بَيتِ الله" (أفسس 2: 19)؛ يأتي يسوع إلى كل مؤمن عند موته، كما جاء في خبرة بولس الرسول " فلِي رَغبَةٌ في الرَّحيل لأَكونَ مع المسيح" ( فيلبي 1: 23)، وسوف يأتي بالمَجْد يوم مجيئه الثاني، كما يصرّح بولس الرسول " إِنَّنا نَحنُ الأَحياءَ الباقين سنُخطَفُ معَهم في الغَمام، لِمُلاقاةِ المسيحِ في الجَوّ، فنَكونُ هكذا مع الرَّبّ دائِمًا أَبَدًا" (1 تسالونيقي 4: 17). أمَّا عبارة "لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون" فتشير إلى تأكيد يسوع لتلاميذه بإدخالهم في حالته المجيدة في آخر الأزمنة لدى عودته "فسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه"(متى 16: 27). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "مضى يسوع وفتح الطَّريق، كي يُعدَّ الموضع، ويُعطي حق العبور به إلى مملكة المَجْد الأبدي". انه يشاطرنا حياته الإلهية لأنَّ الناس لا يستطيعون بقواهم وحده أن ينالوا هذه الحَياة، كما صرّح السيد المسيح " حَيثُ أَكونُ أَنا لا تَستطيعونَ أَنتُم أَن تَأتوا" (يوحنا 7: 34). وتقتضي خدمة التلميذ ليسوع المسيح أن يشاركه في موته كي يشاركه في قيامته، كما صرّح يسوع " مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي" (يوحنا 12: 26). وكما يشارك التلميذ في أتضاع يسوع في طاعته (يوحنا 13: 33) كذلك يشاركه في ارتفاعه في المَجْد (يوحنا 17: 24).
4 أَنتُم تَعرِفونَ الطَّريقَ إلى حَيثُ أَنا ذاهِب.
تشير عبارة " أَنتُم تَعرِفونَ الطَّريقَ" إلى تذكير يسوع تلاميذه حول تعليمه عن الطَّريق؛ ويكفي أن يتذكروا كلامه كي يعرفوا أنَّ الطَّريق هو المسيح فادي البشرية بدمه على الصليب. لكنهم لم يُدركوا معنى المسيح المصلوب والدليل على ذلك أنهم سألوه بعد قيامته "يا ربّ، أَفي هذا الزَّمَنِ تُعيدُ المُلْكَ إلى إِسرائيل؟" (أعمال الرُّسُل 1: 6). أمَّا عبارة "الطَّريقَ" فتشير إلى المسيح الذي به يَمْضي الإنسان إلى الآبِ، كما صرّح يسوع "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6)؛ أمَّا عبارة " حَيثُ أَنا ذاهِب" فتشير إلى السَّماء، بيت الله. أمَّا عبارة "أَنا ذاهِب" فتشير إلى ذهاب يسوع إلى الصلب والموت والقيامة والصعود للسماء ليفتح طريق الآب السماوي للإنسان. وقد فهم توما فيما بعد هذا الكلام فقال لسائر التلاميذ " فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضاً لِنَموتَ معَه" (يوحنا 11: 16).
5 قالَ له توما: ((يا ربّ، إِنَّنا لا نَعرِفُ إلى أَينَ تَذهَب، فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟
تشير عبارة "توما" في الأصل اليوناني Θωμᾶς(معناه التوأم Δίδυμος ( يوحنا 11: 16) إلى أحد الرسل الاثني عشر ( متى 10: 3). وعبّر توما عن غيرته ومحبته للمسيح بقوله للرسل "فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضاً لِنَموتَ معَه!" (يوحنا 11: 16)؛ وهو الذي قال ليسوع في أثناء العشاء الأخير "يا ربّ، إِنَّنا لا نَعرِفُ إلى أَينَ تَذهَب، فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟)) قالَ له يسوع: ((أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 14: 5-6) كان هذا الرسول ميّالاً إلى الشَّك، قد شَّكَّ في قيامة المسيح عندما قال: "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن" (يوحنا 20: 25)؛ وبعد ثمانية أيام، أراه المسيح آثار جراحه، فهتف بإيمان "ربي والهي" (يوحنا 2-: 29) ثم نراه على بحر الجليل مع ستة من التلاميذ لمَّا ظهر لهم يسوع للمرة الثالثة (يوحنا 21: 2)؛ وكذلك في علية صهيون بعد صعوده (أعمال الرسل 1:3). ويروي التقليد أنَّ توما بشَّر أولًا في اليهودية ثم أمضى الشطر الأكبر من حياته في الوعظ في الرّها شمال شرق سوريا وفي بلاد فارس والهند واستشهد في مليبار، في جنوب الهند مطعونًا بالرماح على يد كهنة الأوثان، لذلك يُصوّر في الأعمال الفنية وهو يحمل رُمحًا، وأصبح شفيع المسيحيين في الهند. يُحتفل منذ القرن السادس بنقل رفاته إلى مدينة الرَّها. أمَّا عبارة "إِنَّنا لا نَعرِفُ إلى أَينَ تَذهَب" فتشير إلى عدم فهم توما والتلاميذ قول المسيح الذي يدور حول ذهابه إلى موته لأنَّ أفكارهم في شان المُلك الأرضي جعلتهم يظنون أنَّ موت المسيح امرأ مستحيلا. أمَّا عبارة "فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟" فتشير إلى السؤال الذي لا يدلُّ على شكٍّ في نفس توما، بل على رغبة في الإرشاد حول كيفية الوصول إلى نعيم الله. تحمل هذه الآية صدى حزن التلاميذ، لأنَّ ساعة يسوع قد دنت.
6 قالَ له يسوع: ((أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي.
عبارة "أَنا" في الأصل اليوناني Ἐγώ εἰμι (معناها "أنا هو") تشير إلى الكيان الحي الإلهي، كما عرّف الله نفسه لموسى النبي: "أَنا هو مَن هو" (خروج 3: 14) كواجب الوجود الدائم وعلة الوجود. أمَّا عبارة "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة " فتشير إلى تصريحات يسوع ست مرات التي تبدأ ب "أنا": " أَنا نُورُ العالَم "(يوحنا 8: 12)، "أنا هو باب الخراف" (يوحنا 10: 7) " أَنا بابُ الخِراف " (يوحنا 10: 9)، "أَنا الرَّاعي الصَّالِح " (يوحنا 10: 11)، " أَنا القِيامةُ والحَياة" (يوحنا 11: 25)، " أَنا الكَرمَةُ الحَقّ"(يوحنا 15: 1). ويحاول يسوع تعليم تلاميذه أسلوبًا جديدًا في التفكير والنظر إلى إليه لإدراك شكل حضوره. يسوع هو الطَّريق فقط بقدر ما يقود بتعليمه إلى الحَياة، وهو الطَّريق المؤدِّي إلى الآب بقدر ما هو نفسه "الحَقّ والحَياة" (يوحنا 10: 9). فالطَّريق ليس خارجًا عنه، والحَقّ ليس له وجود بدونه، والحَياة ليست إلاَّ فيه؛ أمَّا عبارة "أَنا الطَّريق" فتشير إلى صورة مأخوذة من رمزية الخروج (تثنية الاشتراع 1: 30-33) وهي الطَّريق الطويل الشاق الذي يجب على شعب العهد القديم أن يجتازه تلبية لنداء إلهه معتمدًا عليه بالإيمان لبلوغ ارض الميعاد. فقد طبّقت هذه الصورة على الشريعة التي تكشف عن التوجيهات التي يُعرضها الرَّبّ على شعبه من أجل المُكافآت الأبدية (تثنية الاشتراع 32: 4). ولكن يسوع أفتتح طريقة جديدة في العهد الجديد للسير، كما يريد الله (مرقس 8: 34)، فيسوع هو الطَّريق إلى الآب، لأنَّه افتتحه بموته، إنه الطَّريق الذي يقود إلى الحَقّ والحَياة (يوحنا 10: 9)، ولا خَلاص إلا باسمه، كما جاء في تعليم بطرس الرسول " فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماء أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص " (أعمال الرُّسُل 4: 12). لذلك فان المسيحية الناشئة سُمّيت "الطَّريقة" (أعمال الرُّسُل 9: 2)؛ أمَّا عبارة “الحَقّ" فتشير إلى يسوع نور العالم الذي يكشف للناس الطَّريق الذي افتتحه لهم وهم موتى بالخطيئة. فيسوع بكونه الابن المُتجسِّد هو صورة الآب، الذي يكشفه لتلاميذه بتعليمه "أنَّ الكلامَ الَّذي بَلَّغَتنيه بَلَّغتُهم إِيَّاه فقَبِلوه وعَرَفوا حَقّاً أَنِّي مِن لَدُنكَ خَرَجتُ وآمنوا بِأَنكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 8)، ويُعلق القدّيس هيلاريوس أسقف بواتييه " يكشف يسوع للرّسل عن المعرفة التامّة المتعلّقة بإيماننا. من هو الطَّريق لم يدعنا نتوه في الدروب التي لا منافذ لها. والذي هو الحَقّ لم يخبرنا بغير الحَقّ. والّذي هو الحَياة لم يسلّمنا إلى الخطأ المُميت"(الثّالوث، 7: 33-35 ). أمَّا عبارة "الحَياة" فتشير إلى يسوع الذي هو مصدر الحَياة المادية والحَياة الرُّوحَيَّة، كما جاء في مقدَّمة إنجيل يوحنا " فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس "(يوحنا 1: 4). فمن خلال يسوع يدخل المؤمنين في الاتِّحاد بالآب، وعلى هذا الاتِّحاد يقوم ملء الحَياة الحقيقية (يوحنا 17: 3). أمَّا عبارة "الآب" كلمة سريانية (معناها المصدر)، فتشير إلى الآب (الله) في الثالوث الأقدس تمييزاً عن أي أب آخر؛ ومن يجد الآب يجد السَّماء التي هي بيته. أمَّا عبارة " لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي" فتشير إلى يسوع الذي هو الطَّريق إلى الآب. فعلاقة يسوع بالآب تجعل الذي يؤمن به، يؤمن بالآب، وتجعل الذي يراه، يرى الآب فيه، كما صرّح يسوع "مَن رآني رأَى الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 12: 45). فالطَّريق إلى الآب تمرّ بالابن من خلال موته وشفاعته، فانَّه وحده الطَّريق والحَقّ والحَياة. لا نستطيع دخول السَّماء إلاَّ به "لأَنَّ اللهَ واحِد، والوَسيطَ بَينَ اللهِ والنَّاسِ واحِد، وهو إِنْسان، أَيِ المسيحُ يسوعُ " (1 طيموتاوس 2: 5). فالمسيح أصبح الطريق لنا من خلال ذهابه إلى الآب وعودته كي يأخذنا معه.
7 فلَو كُنتُم تَعرِفوني لَعَرفتُم أَبي أَيضاً. مُنذُ الآنَ تَعرِفونَه وقَد رأَيتُموه)).
تشير عبارة " فلَو كُنتُم تَعرِفوني لَعَرفتُم أَبي أَيضاً" إلى معرفة الشركة في الجوهر بين يسوع والله: من يعرف جوهره يعرف جوهر الآب أيضًا. يسوع هو الحَقّ الذي يكشف الآب حيث أنَّ معرفة يسوع معرفة شاملة تفترض اكتشاف وحدته مع الآب. فمعرفة الآب تكون بقدر معرفة الإنسان يسوع وصفاته ومقاصده وخاصة موته وقيامته. أمَّا عبارة "مُنذُ الآنَ تَعرِفونَه " فتشير إلى ساعة الصليب والحدث الفصحي الذي يفتح أمام التلاميذ إمكانية لقاء يسوع ومعرفته ومعرفة الآب (يوحنا 13: 31). وهذا يعني أنَّ هذه المعرفة لا تكون في نهاية الزمن، بل تبدأ هنا في حياة يسوع البشرية، وستتجلى في الحَياة الأخرى. فمن يعرف المسيح حقّاً يُدرك أنه ابن الله السماوي الذي نزل من السَّماء ويصعد إليها بكونه في حضن الآب " إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه. (يوحنا 1: 18). فمن يبلغه يبلغ الأحضان الإلهية للآب. أمَّا عبارة " وقَد رأَيتُموه" فتشير إلى رؤية المسيح الذي هو " صُورةِ الله " (فيلبي 2: 6) و" شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (العبرانيين 1: 3)، وافتداء المسيح أدَّى إلى إرسال الرُّوح القُدس الذي يُعطينا رؤية حقيقية بها نعرف الآب والابن.
8 قالَ له فيلِبُّس: ((يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا)).
تشير عبارة "فيلِبُّس" اسم يوناني Φίλιππος (معناه مُحبٌ للخير) إلى رسول يسوع الذي وُلد في بيت صيدا (يوحنا 1: 44) الواقعة في شمال بحيرة طبرية (مرقس 8: 22-26). وأحب فيلِبُّس دراسة الكتب المقدسة ولبىَّ دعوة الرَّبّ يسوع (يوحنا 1: 45)، وعاش مع المسيح ثلاث سنين وسمعه يُعلم الجموع ويشفي المرضى ويُقيم الموتى. ولكنه لم يفهم أن الله كان قد كشف عن ذاته في المسيح الذي هو كلمة الله. لذلك قالَ ليسوع: " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا". وشجَّع نتنائيل على اتباع يسوع، كما جاء في إنجيل يوحنا " لَقِيَ فيلِبُّسُ نَتَنائيل فقالَ له: ((الَّذي كَتَبَ في شأنِه موسى في الشَّرِيعَةِ وذَكَرَه الأنبِياء، وَجَدْناه، وهو يسوعُ ابنُ يوسُفَ مِنَ النَّاصِرَة" (يوحنا 1: 45)، وذُكر اسمه في معجزة تكثير الخبز والسمكتين (يوحنا 6: 5-7)، وجاء ذكره أيضا في أحد الشعانين (يوحنا 12: 20). وقد حمل فيلِبُّس بشرى الخَلاص إلى بلاد فارس وآسيا الصغرى، خاصة إقليم فيرجيا، وانتهى به المطاف في مدينة هيرابولس في فريجيا (الاناضول) حيث استشهد مصلوبا بعد أن ثار عليه أهل المدينة الوثنيون. أمَّا عبارة "أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" فتشير إلى أعمق ما يطمح إليه الإنسان (يوحنا 1: 18) وكأنَّه بهذا الطلب يُردِّد فيلِبُّس قول موسى النبي "أَرِني مَجدَكَ" (خروج 33: 18). يطلب فيلِبُّس رؤية لله غير المنظور، ظنًا منه أنَّ ظهوراً جسديا للاهوته من شأنه أن يقدِّم دليلا قاطعًا عن وجوده. إذ رغب فيلِبُّس بأن يكشف الله عن ذاته في وحي خاص، ولكن خطأه أنه لم يرَ ذلك الوحي في المسيح يسوع، كلمة الله المتجسد. ويُعلق القديس هيلاريوس أسقف بواتييه على قول فيلِبُّس: "أَرِنا الآبَ" ليس ذلك لأنَّ فيلِبُّس كان يرغب بأن يتأمّله بعينه البشريّة، لكنّه طلب أن يفهم من هو الّذي يراه أمامه... لقد كان طلبه أن يفهم أكثر ممّا أن يرى لذلك أضاف: "وحَسْبُنا". لو ظهر الله لفيلِبُّس كما أراد لأعلن له مجرَّد قوَّته، ولكنه بالمسيح ظهر كل صفات الله. لقد أراد الله أن يكشف عن ذاته في المسيح المُخلص. فمن رفض الإيمان بهذه الحقيقة العظمى يكون قد حرم نفسه من أعظم هبة إلهية.
9 قال له يسوع: ((إِنِّي معَكم مُنذُ وَقتٍ طَويل، أَفلا تَعرِفُني، يا فيلِبُّس؟ مَن رآني رأَى الآب. فكَيفَ تَقولُ: أَرِنا الآب؟
تشير عبارة "إِنِّي معَكم" إلى السنوات الثلاثة التي قضاها يسوع على الأرض مع فيلِبُّس والبشرية كلها؛ أمَّا عبارة " مُنذُ وَقتٍ طَويل" فتشير إلى مدة ثلاث سنين، والمسيح لم يفترْ في تلك المُدَّة عن التعليم علمًا أنَّ فيلِبُّس كان من المدعوِّين الأوائل. أمَّا عبارة "أَفلا تَعرِفُني، يا فيلِبُّس؟ " οὐκ ἔγνωκάς με فتشير إلى سؤال مباشر طرحه يسوع على فيلبس يتوقع منه على إجابة إيجابية. يتضمن هذا السؤال على عتاب يسوع لفيلِبُّس، لأنَّ يسوع رأى أنَّ معظم تبشيره في إعلان ألاب ذهب سُدى، إذ أنَّ فيلِبُّس الذي هو أحد تلاميذه كان عليه أن يعرف يسوع، ولكنَّه لم يستفد شيئا من هذا الإعلان. وأمَّا عبارة "مَن رآني رأَى الآب" فتشير إلى حياة يسوع كلِّها وإلى أقواله وأعماله التي تكشف الآب السماوي، ووحدته معه. فيسوع " هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى" (قولسي 1: 15)، ورسالته تقوم على كشف حقيقة الآب من خلال ما يقوله، وما يعمله، وما هو عليه، كما صرَّح يسوع "أَظهَرتُ اسمَكَ لِلنَّاسِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي مِن بَينِ العالَم"(يوحنا 17: 6) وجاء في تعليم يوحنا "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه " (يوحنا 1: 18) وقال يسوع أيضا "أَنا والآبُ واحِد" (يوحنا 10: 30). من يرى يسوع، يرى الآب، ومن يعرف يسوع يعرف الله. فالبحث عن الله، ينتهي إلى المسيح لأنَّه "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى وبِكْرُ كُلِّ خَليقَة"(قولسي 1: 15). التلاميذ لم يروا جوهر الآب لأنَّه ليس من المرئيات، ولهذا الله لم يره أحد قط لكن المسيح أظهر صفاته وإرادته ومقاصده وقدرته ورحمته وقداسة سيرته وشفقته على المرضى ورغبته في خَلاص الخطأة ومحبته للتائبين وطول أناته وحفظه للعهود، لأنَّ الابن مُتَّحد به اتِّحاد لا يوصف (يوحنا 5: 17-30). أمَّا عبارة "فكَيفَ تَقولُ: أَرِنا الآب؟ فتشير إلى توبيخ لفيلِبُّس بناء على جهله الآب نتيجة غفلته عن كل ما قاله يسوع وعمله الذي يكشف صورة الآب.
10 أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟ إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي بلِ الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه.
تشير عبارة "أَلا تُؤِمِنُ" في الأصل اليوناني οὐ πιστεύεις إلى سؤال مباشر طرحه يسوع على فيلبس يتوقع منه على إجابة إيجابية، أي أن يؤمن وان يتيقَّن بقول المسيح أنَّه " الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 1: 18). والإيمان هو الذي يُعطى الرؤية الحقيقية أن الابن والآب هما كيانٌ واحدٌ بلا انفصال كما جاء في تعليم يسوع " أَنا والآبُ واحِد"(يوحنا 10: 30)، "مَن رآني رأَى الَّذي أَرسَلَني"(يوحنا 12: 45)؛ وهذا دلالة أنَّ رؤية الله الآب بالمسيح لا تتمّ إلا بعين الإيمان؛ أمَّا عبارة "بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟" فتشير إلى الاتحاد التام بين الآب والابن. فالآب حاضر بالابن بأقواله وأعماله وانهما أقنومان متميِّزان، لأنَّ المسيح قال " أَنِّي في الآبِ " ولم يقل "أنا الآب" لكنهما متساويان في الجوهر. ويُعلق القديس كيرلس " ليس يسوع كمن وُجد خارجًا عنه، ولا في زمنٍ، بل في جوهر الآب مشرقًا منه، وذلك كأشعة الشمس المشرقة، وحرارة النار المتضمنة في صُلبها، شريكه الدائم في الوجود معه مع عدم الانفصال عنه، فلا يوجد الواحد دون الآخر"؛ أمَّا عبارة " إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي " فتشير إلى كلام يسوع الذي هو كلام الآب الذي أوصاه بما يقول ويتكلم "لِأَنِّي لم أَتَكَلَّمْ مِن عِندي بلِ الآبُ الَّذي أَرسَلَني هو الَّذي أَوصاني بِما أَقولُ وأَتكَلَّم" (يوحنا 12: 49). ويُعلن الآب لنا بكلمات يسوع وأعماله. فيسوع أتى من عند الآب والآب يتكلم في ابنه، كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين " كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (عبرانيين 1: 2). لذلك إن الذين يخضعون بلا تحفظ لمشيئة الله، عندهم حسّ الله، وهم وحدهم القادرون على معرفة الميزة الإلهية لتعليم يسوع؛ أمَّا عبارة " المُقيمُ فِيَّ " في الأصل اليوناني ἐν ἐμοὶ μένων (معناها الحال فيَّ) فتشير إلى اتحاد الآب بالابن يسوع. فلو كان المسيح نبيًا فقط لَقاَل الآب الذي أرسلني. قوله ذلك دليل أنُّه الله لا نبيٌّ فقط كسائر الأنبياء " إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضاً" (يوحنا 5: 17)؛ وفي موضع آخر يقول أيضا " لا يَستَطيعُ الابنُ أَن يَفعَلَ شيئاً مِن عندِه بل لا يَفعَلُ إِلاَّ ما يَرى الآبَ يَفعَلُه. فما فَعَلَه الآب يَفعَلُه الابْنُ على مِثالِه؟ أمَّا عبارة "الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه" فتشير إلى أعمال المسيح التي هي إعلان إرادة الآب وإظهار محبته ومشيئته نحو الإنسان، لأنَّ المسيح هو "قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه"(قورنتس 1: 24)، " وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (عبرانيين 1: 2). وكشفت الآيات عن عمل الخَلاص بصورة حسّية، كما حدث في معجزة الخمر في عرس قانا الجليل، كما ود في الإنجيل "هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه " (يوحنا 2: 11). فالآب يعمل مع الابن، كما صرّح يسوع " إِذا كُنتُ لا أَعمَلُ أَعمالَ أَبي فَلا تُصَدِّقوني" (يوحنا 10: 37). وخُلاصة هذه الآية أنَّ الذي سمع صوت الابن سمع صوت الآب أيضا، والذي رأى أعمال الابن رأى أعمال الآب كذلك.
11 صَدِّقوني: إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ وإِذا كُنتُم لا تُصَدِّقوني فصَدِّقوا مِن أَجْلِ تِلكَ الأَعمال.
تشير عبارة "صَدِّقوني" إلى شهادة يسوع المسيح لنفسه أمام تلاميذه، إذ سبق فقال: " إِن شهِدتُ لِنَفْسي فشَهادتي تَصِحّ" (يوحنا 8: 14)؛ أمَّا عبارة " إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ" فتشير إلى تأكيد يسوع على حلول ملء اللاهوت فيه، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فِيه يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولا جَسَدِيًّا" (قولسي 2: 9)، وهذا دليل على الوحدة بينه وبين الآب، وإنهما واحد من جهة الشرف ووحدة اللاهوت، ولا يوجد بينهما اختلاف ولا انقسام. ويُعلق القديس أوغسطينوس "الآب هو الله الذي ليس من الله، والنور الذي ليس من نور، بينما الابن هو إله من إله، نور من نور"؛ لكل أقنوم عمله، فالآب يريد، والابن يُنفِّذ هذه الإرادة ويُعلنها؛ أمَّا عبارة " فصَدِّقوا مِن أَجْلِ تِلكَ الأَعمال" فتشير إلى شهادة أعمال يسوع المسيح، خاصة معجزاته حيث لا أحد يقدر أن يفعل مثل هذه الأفعال ما لم يكن الله معه، كما سبق وقال لليهود " لا يَستَطيعُ الابنُ أَن يَفعَلَ شيئاً مِن عندِه، بل لا يَفعَلُ إِلاَّ ما يَرى الآبَ يَفعَلُه. فما فَعَلَه الآب يَفعَلُه الابْنُ على مِثالِه" (يوحنا 5: 19). ومن خلال صفاته أعلن المسيح، لا سيما بتواضعه ومحبته صفات الآب، ومن خلال أعماله (شفاء، إقامة أموات...) أعلن إرادة الآب نحو البشر، ومن خلال تعاليمه كان الآب يتكلم فيه "لِأَنِّي لم أَتَكَلَّمْ مِن عِندي بلِ الآبُ الَّذي أَرسَلَني هو الَّذي أَوصاني بِما أَقولُ وأَتكَلَّم وأنا أَعلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَه حَياةٌ أَبَدِيَّة فما أَتَكَلَّمُ بِه أَنا أَتَكَلَّمُ بِه كما قالَه لِيَ الآب" (يوحنا 49:12-50). وما أعجب هذه الأعمال، وأعظمها قيامته العجيبة. فأعماله تشهد أنه يعمل أعمال آبيه، فأعماله يجب أن تقنع. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " يليق بكم عند سماعكم "أب" و"ابن" ألاَّ تسألوا شيئًا آخر سوى تأكيد العلاقة في الجوهر، ولكن إن كان هذا غير كافٍ لكم لتأكيد الكرامة المشتركة والجوهر المشترك فتعلموا هذا من الأعمال".
12 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ بي يَعمَلُ هو أَيضاً الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها أَنا بل يَعمَلُ أَعظَمَ مِنها لأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب.
تشير عبارة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلى تأكيد إعلان حقيقة جديدة، وهي وعد المسيح لتلاميذه؛ أمَّا عبارة "مَن آمَنَ بي" فتشير إلى الإيمان بيسوع كشرط يُمكّن تلاميذه من القيام بأعماله، لأنَّهم يتحدون به مع الآب والابن ويكونون وسيلة إيصال نعمة الله إلى سائر الناس. وهذا الأمر يدلُّ على ثقة يسوع فيهم، والاعتماد عليهم، وتقديرهم ومحبته لهم؛ أمَّا عبارة "يَعمَلُ هو أَيضاً الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها" فتشير إلى وعد المسيح لتلاميذه بالشركة معه بصنع المعجزات كشفاء المرضى (أعمال الرُّسُل 5: 15، 13: 11؛ 19: 12) وإقامة الموتى كآية لحضوره معهم وإثباتا لصحة تعاليمهم حيث كانوا يصنعون هذه الإعمال والمعجزات باسم المسيح أي بقوته (أعمال الرُّسُل 3: 6)؛ ويذكر سفر أعمال الرُّسُل كيف أنّ الناس "كانوا يَخرُجونَ بِالمَرْضى إلى الشَّوارِع، فَيَضعونَهم على الأَسِرَّةِ والفُرُش، لِكَي يَقَعَ ولَو ظِلُّ بُطرُسَ عِندَ مُرورِه على أَحَدٍ مِنهُم" (أعمال الرُّسُل 5: 15) إنه يعمل فينا، ولكن ليس دوننا. والعمل العظيم هو إنشاء جماعة مؤمنه (الكنيسة) لتُرسل إلى العالم (يوحنا 17: 17-18). فمن يؤمن بالمسيح يستطيع أن يعمل نفس الأعمال التي عملها الآب بالابن. إن روح الله الذي هو نور وقوة، يواصل حضور يسوع في جماعة التلاميذ والكنيسة، ويساعدهم على اكتشاف التعليم وتوجيهه، لكي يتجاوب مع حاجات المؤمنين في الزمان والمكان ويكملوا الخدمة وتستمر الكنيسة في مواجهة اضطهاد العالم. أمَّا عبارة " يَعمَلُ أَعظَمَ مِنها " فتشير إلى عمل التلاميذ والمؤمنين به الذي هو امتداد لعمل يسوع الذي يعطيهم روحه، لكي يتابعوا أعماله، بل يعملون أعمالاً أعظم، بمعنى أن نحمل الإنجيل الطاهر من فلسطين إلى العالم اجمع. فكانت أكبر معجزة تغيير الأمم الوثنية إلى المسيحية مع تبشير الرُّسُل وبولس الرسول ولا يزال المُبشِّرون بالإنجيل في العالم كله. ويُعلق القديس أمبروسيوس "المسيح صنع المعجزات خلال الثلاث سنوات لخدمته على الأرض، أمَّا المؤمنون به فيعملون الآيات عبر الأجيال إلى انقضاء الدهر"؛ أمَّا عبارة "ذاهِبٌ إلى الآب" فتشير إلى رحيل يسوع عن طريق الموت إلى الآب السماوي. وان صعود يسوع إلى الآب هدفه أن "يتولى كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض"(متى 28: 18)، وليتشفع في تلاميذه (1 بطرس يوحنا 2: 1)، وليزيد إيمانهم وغيرتهم في التبشير وتأثير على غيرهم، ويضمن للتلاميذ إرسال الرُّوح القُدس الذي بقوته يصنعون أعمالا عظيمة (يوحنا 14: 26). وان حضور يسوع مع الآب سيتيح له أن يمنحهم كلَّ ما يسألونه باسمه (يوحنا 14: 13-14) ويُثبت حياته فيهم "وإِنَّ الَّذي يُثَبِّتُنا وإِيَّاكُم لِلمسيح والَّذي مَسَحَنا هو الله" (2 قورنتس 1: 21)، وبهذا يتمجَّد الآب في انتصارات الابن التي تتمُّ بوساطة صلاة التلاميذ وطاعتهم له (يوحنا 14: 15).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 14: 1-12)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 10: 1-10)، يمكن أن نستنتج أنَّه يتمحور حول تعزية المسيح لتلاميذه مبيِّنا لهم غرض رحيله إلى السَّماء وعن مصيرهم أيضًا.
1) غرض رحيل المسيح:
عرف التلاميذ أن يسوع يعود إلى الآب "ويتركهم" وحدهم وسط عالمٍ معادٍ ممّا يُولد فيهم قلقًا، فحاول يسوع جاهدًا أن يُشدِّد عزائمهم بكلمات حنونة كي لا يخافوا " ولا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم" (يوحنا 14: 1)، وأن يضعوا ثقتهم في الله وفيه أيضًا قائلا. "إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً". الإيمان ثقة مبنيَّة على الله، وعلى ابنه يسوع المُتجسِّد، الذي يتجلّى بمنح عونه كي يتغلب المؤمن على القلق والاضطراب (يوحنا8: 36-46). فرحيله عن تلاميذه يؤدِّي إلى اتحاد أوثق بهم وبالآب، كما أن الرُّوح القُدس سيقوم بحمايتهم.
بيّن يسوع لتلاميذه أنَّ هدف رحيله من هذا العالم هو انتقاله إلى المَجْد السماوي حيث يضمن لجميع المؤمنين إمكانية الثبات للأبد في الاتحاد به وبآبيه، حيث أنَّ يسوع عندما يذهب إلى الآب يتحد ببشريته بالآب. وعندما يصبح في بيت الآب، يضمَّ إلى حياته البشر، ولا سيما تلاميذه، كما صرَّح لتلاميذه " في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم (يوحنا 14: 2).
رحيل يسوع ضروري أولاً لكي يُرسل الرُّوح القُدس لتلاميذه، وثانياً لكي يعرف التلاميذ الآبَ، ويعملوا أعمالا عظيمة. وثالثًا رحيله ضروري أيضا لكي يعود ثانية ليأخذ تلاميذه ليكونوا معه، كما صرّح: "إِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقاماً أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون" (يوحنا 14: 3)، ويكون ذلك إمَّا عند الموت، كما حدث مع استشهاد إسطفانس أول شهداء المسيحيين (أعمال الرُّسُل 7: 95) أو عند القيامة في آخر الأزمنة، كما جاء في تعليم بولس الرسول " فنَحنُ إِذًا واثِقون، ونَرى منَ الأَفضَلِ أَن نَهجُرَ هذا الجَسَد لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ "(2 قورنتس 5: 8).
2) مصير التلاميذ:
يكشف يسوع عن مصير التلاميذ من خلال أسئلة الرسولين توما وفيليبس: توما يعترض على التلاميذ لا يعرفون إلى أين يذهب يسوع ولا الطَّريق. فيجيب يسوع "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة". هو الطَّريق إلى الحضرة الإلهية والحَقّ المُتجسِّد الذي يهب الحَياة الأبدية لكل من يُؤمن به. ويُعلق القديس أمبروسيوس "إنه الطَّريق والحَقّ والحَياة، وكأنَّه هو البداية والنهاية وما بينهما. به نبدأ الحَياة، ونسلك الطريق، ونبلغ إلى النهاية". يسوع هو الطريق الذي لا يتركنا نهيم في طرق مسدودة، وهو الحق الذي لا يخدعنا بالكذب، وهو الحياة الذي لا يسلّمنا إلى الإثم القاتل.
(أ) يسوع هو الطَّريق:
إن صورة "الطَّريق" مأخوذة من رمز خروج شعب العهد القديم تلبيةً لنداء الله بالاعتماد على الإيمان به لبلوغ أرض الميعاد. وللطريق دورٌ أساسيٌّ في حياتهم. فمثلا طلب موسى من الرب أن يُريه طَّرِيقه: "إِن كُنتُ قد نِلتُ حُظوَةً في عَينَيكَ، فعَرِّفْني طَّرِيقكَ لِكَي أَعرِفَكَ فأَنالَ حُظوَةً في عَينَيكَ" (خروج 33 :13). قاد موسى إسرائيل من العبودية في مصر إلى الأرض التي أعطاها له الرّبّ ويطلب منه أنّ يُريه الطَّرِيق للوصول إلى تلك الأرض.
في العهد الجديد يفتتح يسوع بشخصه وحياته طريقة جديدة حتى سُمِّيت المسيحية "الطَّريق" (أعمال الرُّسُل 9: 2). وعلى منوال موسى، يسأل توما يسوع نفس السؤال الذي طرحه موسى على الله في الصحراء: " كَيفَ نَعرِفُ الطَّرِيق" (يوحنا 5: 14). فيسوع هو الطَّريق المؤدي إلى الآب بقدر ما هو نفسه "الحَقّ والحَياة"(يوحنا 10: 9). هويّة يسوع هي الطَّرِيق إلى اكتشاف ملموس وحقيقي لوجه الله الذي يتجلى على إنّه حبّ.
المسيح هو طريقٌ بنوره، لأنَّه إلهٌ وإنسانٌ معاً. كإله يقودنا إلى الآب. إنّه لا يُخبرنا عن الطَّريق، بل إنّه يُصبح لنا الطَّريق، لأنَّه لم يُعطنا وصايا نصل بها للآب فحسب، بل قدَّم نفسه طريقاً إلى الآب، ندخل به للآب دون أن نخرج من الابن، لأنَّ الابن في الآب. هكذا باتحادنا به، نتحد بالآب. لذلك يقول المسيح " اُثبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم" (يوحنا 15: 4).
يسوع كإنسان ظهر بمثابة موسى الجديد، القائم بدور المرشد والمُرافق والقائد، كما هو الحال في طريق عمواس مع التلميذين "بَينَما هُما يَتَحَدَّثانِ ويَتَجادَلان، إِذا يسوعُ نَفْسُه قد دَنا مِنهُما وأَخذَ يَسيرُ معَهما" (لوقا 24: 15). فهو لا ينصحنا ويُرشدنا فحسب. بل إنّه أيضا يسير معنا بروحه خطوة خطوة، ويُؤيّدنا بقوّته ويأخذ بأيدينا ويقودنا؛ كما سار الله مع يشوع بن نون "الرَّبّ هو السائِرُ أماَمَكَ، وهوِ يَكوَن معَكً ولا يُهمِلكَ ولا يَترُكُكَ، فلا تَخفْ ولا تَفزَعْ" (تثنية الاشتراع 31، 8)، وسار يسوع على طريق الصليب لدخول المَجْد، كما صرَّح لتلميذي عماوس "أَمَا كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟" (لوقا 24: 26). ودعا البشر لاتباعه بقوله "النُّورُ باقٍ معَكم وقتاً قليلاً فَامشوا ما دامَ لَكُمُ النُّور"(يوحنا 12: 35). ويُعلق القدّيس رافاييل أرناييز بارون " يا ربّي يسوع، كم أنت طيّب! أنت تصنع كلّ شيء بطريقة رائعة. أنت تدلّني على الطَّريق وتُريني الهدف. الطَّريق هو الصّليب العَذب والتّضحية والتخلّي عن الذات. وما الهدف؟ الهدف هو أنتَ، ولا أحد سواك. الهدف هو امتلاكك أبديًّا في السَّماء، مع مريم، ومع الملائكة وجميع القدّيسين"(كتابات روحيّة، 12/04/1938).
يسوع هو الطَّريق بتعاليمه، كما جاء في تصريح بطرس الرسول "يا ربّ، إلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياة الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟"(يوحنا 6: 86)، وهو الطَّريق بمثاله أيضا، كما أعلن بطرس "ترَكَ لَكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه" (1بطرس 2: 21)، وهو الطَّريق خاصة بذبيحته، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين "فما أَولى دَمَ المسيحِ، الَّذي قَرَّبَ نَفْسَه إلى اللهِ بِروحٍ أَزَلِيٍّ قُرْبانًا لا عَيبَ فيه، أَن يُطَهِّرَ ضَمائِرَنا مِنَ الأَعمالِ المَيْتَة لِنَعبدَ اللهَ الحَيّ! (عبرانيين 9: 14)، وأخيرًا يسوع هو الطَّريق بروحه، كما صرَّح يسوع: "متى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لأنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث"(يوحنا 16: 13).
يسوع هو الطَّريق الذي فيه تتحقق كل الوعود الإلهية، كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنَّ جميعَ مَواعِدِ اللهِ لَها فيه ((نَعَم)). لِذلِك بِه أَيضًا نَقولُ لله: ((آمين)) إِكرامًا لِمَجْدِه" (2 قورنتس 1: 20). ويفتح يسوع ملكوت السماوات للمؤمنين ولا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلاَّ به، ولا إلى معرفته ما لم يخبره الابن عنه. "لا يستطيع أحد أن يأتي إليّ ما لم يجتذبه الآب" وأيضًا: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع" (12: 32).
أخيرًا يسوع هو الطَّريق بذبيحته على الصليب. الفاصل بين الإنسان والله ليس البعد بين السَّماء والأرض، بل إثم الإنسان وخطاياه. ويسوع هو الطَّريق المقدس، كما يصفه أشعيا "يَكونُ هُناكَ مَسلَكٌ وطَريق يُقالُ لَه الطَّريق المُقَدَّس" (أشعيا 35: 8)، لأنَّه فيه يسير الخاطئ من الأرض إلى السَّماء، ومن حالة الخطيئة إلى حالة القداسة ومن العداوة إلى المصالحة معه؛ وقد افتتح لنا يسوع هذا الطَّريق من خلال ذبيحة جَسَده المُقدس لدخول القُدْس، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين "لَنا سَبيلاً إلى القُدْسِ بِدَمِ يسوع، سَبيلاً جَديدةً حَيَّةً فَتَحَها لَنا مِن خِلالِ الحِجاب، أَي جَسَدِه" (عبرانيين 10: 19-20). ويعلق الطوباويّ غيريك ديغني " إذا كنت أيّها الأخ تسير في هذه الطَّريق، فلا تَمِلْ عنها، لئلاَّ تُهين الرَّبّ الذي دَلّك عليها، وتجعلك تتيه في سبل قلبك. إذا كانت الطَّريق ضيّقة أمامك فانظر إلى الغاية التي ستوصلك إليها" (العظة الخامسة لزمن المجيء).
ومع المسيح لم تَعُدْ الطَّريق هي الشريعة، بل شخص يسوع المسيح نفسه هو الشريعة، كما صرّح يسوع لتلاميذه "أَنا الطَّريق والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي"(يوحنا 14: 6)، وفيه يتحقق للمسيحيين الفصح والخروج، وفيه ينبغي أن يسيروا في طريق المحبة، كما جاء في توصيات بولس الرسول "سِيروا في المَحَبَّةِ سيرةَ المسيحِ الَّذي أَحبَّنا وجادَ بِنَفسِه لأَجْلِنا قُربانًا وذَبيحةً للهِ طَيِّبةَ الرَّائِحة" (أفسس5: 2) وهذه المسيرة تؤدّي إلى الآب "لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إلى الآبِ في رُوحٍ واحِد" (أفسس 2: 18).
مهما كانت الطَّريق، يسوع معنا فيها ليقودنا إلى الحَياة الحقيقية. وإذا كان يسوع هو الطَّريق فإنه يطلب منّا أن نسير وراءه كي يوصلنا إلى غايتنا. وباتحاد حياتنا به نتحد بالله فهو سبيلنا إلى الآب؛ وهو طريق آمن وأكيد نحو الحَياة الأبدية. لذا كل مَن هو على الأرض مدعو ليسير على هذا الطَّرِيق الإلهي. فكل إنسان يرغب في الحَياة، لكن ليس كل أحدٍ يجد الطَّريق. ويعلق القدّيس غريغوريوس الناريكيّ، راهب وشاعر أرمنيّ" أرجو ألا يجعلني جرح الخطيئة التي يحرّضني عليها الشيطان أضلُّ الطَّريق إلى الأبد!" (كتاب الصلوات، الصلاة رقم 18). الرّب يسوع المسيح هو الطّريق الذي يقود إلى معرفة الحقّ، في حين هو نفسه هذا الحقّ: "عَلِّمْني يا رَبُّ طرقَكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ" (مزمور 86: 11). فإذا كنتَ تبحثُ عن الطريق، فما لكَ إلاّ المرور بالرّب يسوع المسيح، بما أنّه هو نفسه الطريق: "هذا هو الطَّريق فاسلُكوه إذا يامَنتُم وإذا ياسَرتُم" (أشعيا 30: 21).
(ب) يسوع هو الحَقّ
يسوع ليس هو الطَّريق فحسب، إنَّما هو أيضًا الحَقّ. يطلق لفظ حَق أو حقيقة على كل فكر، وكل كلمة تطابق الواقع. وعلى واقع الشيء ذاته أيضاً حينما ينكشف بجلاء ووضوح للعقل، كما تشير اللفظة اليونانية ἀληθείας (معناها غير خفي). وأمَّا تعريف الحقَّ في العهد القديم فيعني أمانة نحو العهد (رومة 3: 6)، وفي العهد الجديد، فالحق هي المسيح وإنجيله الطاهر كنا صرَّح بولس الرسول " حَقيقةُ البِشارة"(غلاطية 2: 5).
يحتل مفهوم الحَقّ أو الحقيقة في إنجيل يوحنا مكانة مرموقة. ليس الحَقّ، بالنسبة إلى يوحنا، هو كيان الله في حد ذاته، بل هو كلمة الآب "إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ"(يوحنا 17: 17)، وهي كلمة ثابتة لا تتغيَّر، وهي الحَقّ الذي أتى يسوع "ينادي به"، كما صرّح لليهود "أَنا الَّذي قالَ لكُمُ الحَقّ الَّذي سَمِعَهُ مِنَ الله" (يوحنا 8: 40)، ويشهد له، كما أعلن يسوع أمام بيلاطس " أَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إلى صَوتي" (يوحنا 18: 37).
إن الشيء الجديد الذي جاءت به المسيحية عن المسيح أنَّه هو نفسه الحَقّ "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة (يوحنا 14: 6). يفصح هذا اللقب أيضاً، بطريق غير مباشر، عن شخص المسيح الإلهي، فإذا كان يسوع هو الوحيد بين الناس، الذي يُمكنه أن يكون الحَقّ، فلأنَّه في الوقت نفسه، هو الكلمة، " الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب" (يوحنا 1:18)، من حيث إنه الكلمة الذي صار بَشَراً، يحمل في ذاته ملء الوحي، ويُخبرنا عن الآب " إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 1: 18). ويُعلق القديس أمبروسيوس قائلا: "المسيح ليس فقط هو اللَّه، بل اللَّه الحَقّ، إلهٌ حق من إلهٍ حَق".
يسوع هو الحَقّ، لم يقصد يسوع بقوله انه الحَقّ هو تعليم الناس كل العلوم، إنَّما أن يُعلمهم ما يوصلهم إلى السَّماء. وكل ما أتى به الأنبياء والرُّسُل من التعليم الحَقّ لم يكن إلاَّ منه، كما أعلنه هو نفسه " قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه (متى 11: 27). وفيه كَملت الظلال والرموز الواردة في العهد القديم. فهو المَنُّ الحقيقي النازل من السَّماء (يوحنا 6: 32)، وخيمة الاجتماع (العبرانيين 8: 3).
يسوع هو الحَقّ لأنَّه كلمة الله، وهو يُعلن لنا كلَّ ما يَلزمنا معرفته عن الله وعن أنفسنا، كما صرّح يسوع "تَعرِفونَ الحَقّ: والحَقُّ يُحَرِّرُكُم" (يوحنا 8: 32). والمسيح هو الحَقّ المُعلن لنا في قداسته ومحبَّته. هو أظهر الحَقّ بأقواله وأعماله. فالحَقّ الوحيد الذي لا يتغيَّر هو الله. ومن يكتشف الحَقّ ويعرفه يَثبت في الطَّريق فتكون له نور الحَياة، كما صرّح يسوع " أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يوحنا 8: 12). المسيح هو الحَقّ الذي ينبغي أن نؤمن به ونشهد له حتى الموت. يعلق القدّيس أوغسطينوس " إذا كان هو الحقّ، فمَن كان في الحقّ كان معه. أمّا مَن جاء خارجًا عنه، فهم على العكس لصوص وسارقون، لأنّهم لم يأتوا إلاّ لينهبوا ويُميتوا. قال يسوع: "لكنّ الخراف لم تُصغِ إليهم" (المقالة رقم 45 عن إنجيل القدّيس يوحنّا).
يسوع هو الحَقّ، لأنَّه أولاً ينقل إلينا في ذاته وحي الآب، كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "أنَّ الكلامَ الَّذي بَلَّغَتنيه بَلَّغتُهم إِيَّاه فقَبِلوه وعَرَفوا حَقّاً أَنِّي مِن لَدُنكَ خَرَجتُ وآمنوا بِأَنكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 8)، وهكذا يُشْركنا في الحَياة الإلهية، كما جَاء في تعليم يوحنا الرَّسول " أَنَّ اللهَ وَهَبَ لَنا الحَياةَ الأَبدِيَّة وأَنَّ هذهِ الحَياة هي في ابنِه"(1 يوحنا 5: 11-13).
يسوع هو الحَقّ، لأنَّه يحقِّق كلَّ وعود الله، كما جاء في تعليم بولس الرسول " إِنَّ جميعَ مَواعِدِ اللهِ لَها فيه ((نَعَم)). لِذلِك بِه أَيضًا نَقولُ لله: ((آمين)) إِكرامًا لِمَجْدِه " (2 قورنتس 1: 20).
يسوع هو الحَقّ، لأنَّه يُوجِّهنا ويقودنا إلى الإيمان. يُعلق القدّيس بونافَنتورا " بكون يسوع الطريق، فإنّ الرّب يسوع المسيح هو سيّد المعرفة ومصدرها حسب الإيمان... لذا، علّمَ بطرس في رسالته الثانية: " فازدادَ كَلامُ الأَنبِياءِ ثَباتًا عِندَنا، وإِنَّكم لَتُحسِنونَ عًمَلاً إِذا نَظَرتُم إِلَيه نَظَرَكم إِلى سِراجٍ يُضئُ في مَكانٍ مُظلِم" (2بطرس 1: 19) " (عظة بعنوان "الرّب يسوع المسيح المعلّم الأوحد"). فإن المسيح يقول الحَقّ (يوحنا 8: 45)، وهو "مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ " (يوحنا1: 14)، كما جاء في مقدمة إنجيل يوحنا: "وأمَّا النعمة والحَقّ، فقد بلغا إلينا على يد يسوع المسيح " (يوحنا 1: 17)، إذ به وفيه قد ظهر الوحي الكامل والنهائي.
إنّ الكثيرين يستطيعون أن يهتفوا "لقد علّمنا الناس الحَقّ". ولكن لا يوجد سوى واحد يستطيع أن يقول: "أنا هو الحَقّ". فالحَقّ بالمعنى المسيحي هو حق الإنجيل، أي الكلمة التي يُوحي بها الآب، والتي تقوم في يسوع المسيح، والتي يُضيئها الرُّوح القُدس، " إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ " (يوحنا 17: 17)، ويتعيَّن علينا أن نقبلها بالإيمان، لتغيير حياتنا. هذه الحقيقة الخَلاصية تقدمها لنا الكتب المقدسة الموثوق بها، وتسطع لنا في شخص المسيح الذي هو، في آن واحد، وسيط الوحي كله وملؤه. إنه الحَقّ الذي يُبدِّد كلَّ ما هو باطل وما هو خطأ. وإنه الحَقّ الذي يكشف كل خداع؛ ففيه نجد الثقة الحقيقية والحقيقة، كما جاء في تعليم بولس الرسول: "إِنَّ جميعَ مَواعِدِ اللهِ لَها فيه ((نَعَم)). لِذلِك بِه أَيضًا نَقولُ لله: ((آمين)) إِكرامًا لِمَجْدِه "(2 قورنتس 1: 20). والرّب يسوع هو الطّريق الذي يؤدّي إلى الحياة، في حين هو نفسه الحياة: "ستُبَيَنُ لي سَبيلَ الحَياة" (مزمور 16: 11).
(ج) يسوع هو الحَياة
يسوع ليس فقط الطَّريق والحَقّ، إنَّما هو أيضا الحَياة. المسيح من حيث انه "الكلمة" الأولى، حاصل على الحَياة منذ البدء. ومن حيث أنه الكلمة المتجسد، فهو " كَلِمَة الحَياة " (1 يوحنا 1: 1). هو " الطَّريق والحَقُّ والحَياة " (يوحنا 14: 6)، وهو "القِيامةُ والحَياة " (يوحنا 11: 25)، وهو يهب أيضًا الحَياة للجَسد يوم قيامة الموتى.
المسيح هو الحَياة، "فكَما أَنَّ الآبَ له الحَياةُ في ذاتِه فكذلِكَ أَعْطى الِابنَ أَن تَكونَ له الحَياةُ في ذاتِه" (يوحنا 5: 26)، وهو قادر أن يمنح هذه الحياة لمن يريد، لقد قال: "جئت لتكون لهم حَياة"، وهي حَياة أفضل وأسمى من الحَياة الأرضيّة. وهو يعطيها لمن يَثبت فيه " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 5: 24). ويوجد آيات قليلة في الأسفار المقدسة تصف الحَياة الأبدية، ولكن هذه الآيات غنيَّة بالوعود، واهمها ما وعد يسوع تلاميذه "في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟" (يوحنا 14: 2). وبالرغم من التفاصيل الأبدية مجهولة لنا، فلا حاجة بنا إلى الخوف، لكن يمكننا أن نتطلع إلى الحَياة الأبدية، لانَّ الرَّبّ يسوع وعد بها كل من يؤمن. لأنَّ المسيح أتى ليُعيد لنا هذه الحَياة الأبدية بمجدها ونورها وفرحها. ويُعلق القديس مكسيمس، أسقف طورينو ، قائلاً" قيامة المسيح هي للموتى حَياةٌ، وللخَطأة غُفرانٌ، وللقديسين مَجدٌ "(العظة 53، 1-2)
المسيح هو الحَياة، لأنه هو مصدر الحَياة الرُّوحَيّة، إنه يُعلمنا حقيقة تلك الحَياة، وهو الذي اشتراها بموته ووهبها لنا بروحه "كما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57). فالسبيل للوصول إلى حَياة الله هو الله عينه من خلال ابنه يسوع المسيح. يعلق بودوان دو فورد، الراهب سِستِرسياني، قائلاً " بما أنّه الحياة، فهو حيّ ومحيٍ، لأنّه "كَما أَنَّ الآبَ يُقيمُ الموتى ويُحيِيهِم فكَذلِكَ الابنُ يُحيِي مَن يَشاء" (يوحنا 5: 21). 9). إنّه حيّ في قلب الآب، وفي فم مَن يعلنه، وفي قلب مَن يؤمن ويحبّ"(عظة عن الرسالة إلى العبرانيّين 4: 12).
المسيح هو الحَياة، لأنَّه يمنحنا حياته. هو "ملك الحَياة" (أعمال الرُّسُل 3:15). فقد مات لفدائنا وليُعطينا حياته، إذ اشترى لنا الحَياة بموته ووهبنا إيَّاها بروحه، بعد أن فقدناها بالخطيئة. الخطيئة هي الموت، والموت هو انفصال عن الله. والمسيح أتى ليتَّحد بنا، ويربط حياته الإلهية بحياتنا الآن وإلى الأبد، كما جاء في الكتب المقدسة "لَمَّا كُنَّا واثِقينَ، أَيُّها الإِخوَة، بِأَنَّ لَنا سَبيلاً إلى القُدْسِ بِدَمِ يسوع، (عبرانيين 10: 19) فنتأهّل للشركة مع الآب فتعود لنا الحَياة، كما اختبرها بولس الرسول "الحَياة عِندي هي المسيح" (فيلبي 21:1). وإذا اتَّحدت رُوح المؤمن برُوح الله بوساطة المسيح، أصبحت رُوحه حَياة ً: " وإِذا كانَ المسيحُ فيكُم فالجَسَدُ مَيْتٌ بِسَبَبٍ مِنَ الخَطيئَة، ولكِنَّ الرُّوحَ حَياةٌ بسَبَبٍ مِنَ البِرّ" (رومة 8: 10).
يسوع هو الحَياة، لأنَّه يدعونا إلى الحَياة الأبدية كي يشركنا فيها "فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس "(يوحنا 1: 4). ولكي يربح المَرءُ الحَياة الأبدية، ويتمتع بها، يجب أن يتَّخذ الطَّريق الضيق، ويزهد في كل أمواله، بل في نفسه ذاتها، ويفقد حياته الحاضرة " لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها. ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه؟ "(متى 16: 25-26). ويعلق المجمع الفاتيكانيّ الثاني "وفي يسوع يجد الناس كمال الحياة الدينية وبه صاَلحَ الله كل شيء (2 قورنتس 5: 18) (" بيان حول "علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية"، العدد 2).
يسوع هو الحَياة، لأنّه يدين الموت، كما يُعلم بولس الرسول: "فأَينَ يا مَوتُ نَصْرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟" (1 قورنتس 15: 55)؛ فالموت الذي طالما كان منتصرًا، هُزِم بموت هازمه، وهو يسوع المسيح، وكل مُؤمن به ينال الحَياة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 5: 24)، ولأنَّ كل من يموت عن الخطيئة يحيا منذ الآن لله في المسيح يسوع " أحسَبوا أَنتُم أَنَّكم أَمواتٌ عنِ الخَطيئَة أَحْياءٌ للهِ في يسوعَ المسيح"(رومة 6: 11). وتُصبح حَياة المؤمن مُحتجبة مع المسيح في الله (قولسي 3: 3)، وذلك بعماده في موت يسوع "فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة" (رومة 6: 4)، وبقيامته معه إلى الحَياة " أجعَلوا أَنفُسَكم في خِدمَةِ الله، على أَنَّكم أَحْياءٌ قاموا مِن بَينِ الأَموات"(رومة 6: 13).
يسوع هو الحَياة، لأنَّه هو "خبز الحَياة" (يوحنا 6: 48)، فقد صرّح السيد المسيح " أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم" (يوحنا 6: 51). وهذا كله يتطلب الإيمان به وبأقواله، كما قالَ يسوع " أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً." (يوحنا 6: 35). ويقوم الإيمان في قبول كلام يسوع والعمل به: "مَن أَعرَضَ عَنِّي ولَم يَقبَلْ كَلامي فلَه ما يَدينُه: الكَلامُ الَّذي قُلتُه يَدينُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 12: 48). ويسوع قادر على فيض الحَياة في كل من يؤمن به.
نستنتج مما سبق أنَّ المسيح هو الطَّريق الذي نثبت فيه للوصول إلى الحَياة. فكل طريق غيره ضلال، وكل حق سواه باطل، وكل حَياة عداه موت. بدون الطَّريق لا مسيرة، وبدون الحَقّ لا معرفة، وبدون الحَياة فهناك موت. هو الطَّريق الذي علينا أن نتبعه، والحَقّ الذي علينا أن نؤمن به، والحَياة التي نسعى لنوالها. فهو الطَّريق الوحيد للحَياة الأبدية، حَياة الله المعطاة للإنسان. وهو الحَقّ الذي به نعرف أبوة الله لنا. ويعلق القدّيس والعلاَّمة بِرنَردُس "إلى الذين يُخطئون ويُضلّون الطَّريق، صرخ يسوع قائلاً: "أنا هو الطَّريق". أمّا إلى الذين يشكّون فيه ولا يُؤمنون به، فقد قال: "أنا هو الحَقّ". وإلى الذين اختاروا هذه الطَّريق لكنّهم تعبوا، قال: "أنا هو الحَياة". (أطروحة عن درجات التواضع).
لا يسعنا أخيرًا إلاَّ أن نختتم مع مناشدة البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني للجميع:" ثِقوا بالرَّبّ يسوع المسيح، فهو لن يخيّب رغباتكم ومشاريعكم إنّما يملأها بالمعنى والفرح. هو القائل: "أَنا الطَّريق والحَقُّ والحَياة"(يوحنا 14: 6). وإن كنتم تبحثون عن كيفيّة حصول ذلك، يجيبكم الراهب الفرنسيسكاني العلاَّمة بونافَنتورا "اسأل النعمة لا المعرفة، إرادتك العميقة لا فكرك، تأوّه صلاتك لا شغفك للقراءة. اسأل الرُّوح لا المعلّم، الرَّبّ لا الإنسان" (المسار الرُّوحي نحو الرَّبّ، الجزء السابع).
الخُلاصة:
طلب السيد المسيح من تلاميذه المُضَّطَّربين الإيمان بكلامه، وبشخصه، لأنَّ الإيمان به هو الإيمان بالله نفسِه. وقد شرح لهم يسوع دوافع هذه الإيمان. يجب على التلاميذ ألاَّ ييأسوا عند رؤية معلمهم يرحل عنهم، فان يسوع يرجع إلى البيت الأبوي، ويَعدّ مكانا لهم، ثم يرجع ويستصحبهم للوصول إلى البيت الأبوي. لذلك ينبغي على التلاميذ أن يعرفوا الطَّريق (يوحنا 14: 4) ويسوع هو الطَّريق " لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 14: 6)؛ وان يتمسكوا بالحَقّ ويسوع هو الحَقّ، وقد اظهر الآب " مَن رآني رأَى الآب" (يوحنا 14: 9)؛ وإذا ما عرف التلاميذ الآب، فانهم يملكون الحَياة، ويسوع هو الحَياة. "أنا هو الطريق والحَقّ والحَياة" وبالتحديد يسوع هو الوسيلة والهدف. فالرَّبّ يسوع هو الطَّريق الّذي يوصلنا للآب، وهو الحَقّ الّذي نتمسّك به فنصل إلى الآب، وهو الحَياة الّتي تملؤنا وتفيض فينا. ويُعلق القدّيس أمبروسيوس "َلنَسلكْ هذا الطريق، وَلنَتمسّك بالحقّ وَلنَتبَع الحياة. فالطريق هو الذي يقود، والحقّ هو الذي يُثبِّت والحياة هي ما يُعطى من الذات "(عن خير الموت).
يُقدم يسوع أكبر تعزية إلى تلاميذه المُضطربين، وهي أن "يكونوا كل حين مع الرَّبّ". لذلك علينا ألاَّ نتصور الموت يأتي لملاقاتنا لدى مغادرتنا من هذا العالم بل لملاقاة المسيح، ومن هذا المنطلق، علينا أن نؤمن أن نهاية حياتنا هنا على الأرض هي بداية حياتنا فوق في السَّماء، وان لا نفكر في خسارتنا هنا، بل في ربحنا هناك، ولا في الافتراق عن الأصدقاء في الأرض، بل في الاجتماع بهم في السَّماء، نعم الموت هائل لمن لا يعلم إلى أي مكان من عالم الظلام يذهب، لكنَّه ليس كذلك لمن يتحقق انه يذهب إلى بيت أبيه السماوي ليكون مع يسوع أخيه الأكبر ومع الملائكة والقِّديسين.
كما كان التلاميذ في حالة اضطراب وخوف كذلك حالتنا في عالمنا المعاصر. نحن محاطون بمخاطر عديدة مثل خطر الأمراض المتفشية المستجدة، وخطر الحرب العالمية الثالثة وخطر الأسلحة النووية التي تُهدِّد البشرية بأسرها، وهناك أمراض لا دواء لها ولا شفاء، وهناك الجوع والزلازل والفيضانات والحرائق ... وإزاء كل هذه المخاطر والصعوبات يناشدنا يسوع قائلا "لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً" (يوحنا 14: 1) وأعطاهم رؤية شاملة في ظل الحَقّ الإلهي. فحالتنا على الأرض ما هي إلاَّ مقدمة لحَياة ابديه سعيدة في حضرة الله ونعيمه. في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟ (يوحنا 14: 2). ويعلق القدّيس خروماتيوس أسقف أقيلا: "يقول يسوع عن نفسه إنّه الطَّريق، لأنّه يقودنا إلى الآب؛ وأنه الحَقّ، لأنّه يدين الكذب؛ وأنه الحَياة لأنّه يدين الموت..."فأَينَ يا مَوتُ نَصْرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟" (1قورنتس 15: 55) (العظة 17، الثّانية للعشيّة الفصحيّة).
دعاء
أيها الآب السَّماوي، إنّ المسيح هو كلمتك المتجسِّدة، والطَّريق الّتي تقودنا إليك، والحَقّ الّذي يحرّرنا، والحَياة الّتي تملأنا بالفرح والسَّعادة. اجعلنا أن نسير على طريقه، الطَّريق الصّليب والتّضحية والتخلّي عن الذات، وان نرى فيه هدفنا الذي هو الحَقّ والحَياة، فنمتلك الحَياة الأبديّة معك، أيها الآب السماوي، ومع مريم، ومع الملائكة وجميع القدّيسين. استَقبِلْ يا ربّ، مَن هم لكَ، لأنّكَ الطريق؛ واعضُدْهم، لأنّكَ الحقّ؛ وأحْيِهم، لأنّكَ الحياة. آمين