
الأردن - في شهر تشرين الأوّل، حين تتفتّح الورود بعد قيظ الصيف الطويل، وحين يكتسي الكون شيئًا من الرّوحانيّة الممزوجة بالصبر والانتظار، نحتفل في العالم بـ"يوم المعلّم". هذه المناسبة ليست مجرّد يومٍ لتبادل التهاني أو إلقاء عبارات الشكر، بل هي وقفة تأمّل عميقة أمام رسالةٍ تتجاوز حدود المهنة، لتبلغ مقام الدعوة والرسالة.
إنّ الله هو المعلّم الأوّل، فقد علّم الإنسان الأسماء كلّها، وفتح أمامه دروب المعرفة والوعي، لتكون المعرفة جسرًا بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وليس عبثًا أنّ جميع الأديان أولت العلم منزلة رفيعة، إذ جعلته وسيلةً لارتقاء الروح، وحماية العقل، وخدمة المجتمع.
من هنا، يأتي المعلّم كشريكٍ في هذه الرسالة الإلهيّة: ينير الدروب، ويزرع في القلوب شغف المعرفة، ويصوغ العقول لتكون أكثر وعيًا وحكمة. فالمعلّم لا يُعطي علمًا فقط، بل يُعطي ذاته: وقته، صبره، قلبه، وإيمانه بقدرة كلّ طالب على أن يكون شيئًا عظيمًا.
ولعلّ صورة المعلّم تشبه الوردة في تشرين: قد تبدو وديعة ورقيقة، لكنّها تحمل سرّ الجمال، وقوّة العطر، وقدرةً عجيبة على أن تترك أثرًا في المكان كلّه. كذلك أنتم، أيّها المعلّمون، قد لا يُدرك الجميع ما تبذلونه من جهدٍ وصبرٍ وتعب، لكنّ أثره يبقى حيًّا في نفوس الأجيال، وينمو مع الزمن ليُغيّر وجه المجتمع.
ويُحكى عن معلّمٍ في قريةٍ نائية، كان يسير يوميًّا عشرات الكيلومترات ليصل إلى مدرسته المتواضعة. لم تكن لديه أدوات حديثة، ولا كتب جديدة، ولا وسائل متطوّرة. لكنّه امتلك قلبًا كبيرًا، وصبرًا لا ينفد، وإيمانًا برسالته. أحد تلاميذه صار بعد سنواتٍ طبيبًا بارزًا، وعاد يبحث عن ذلك المعلّم ليقول له: "لولاك لما وقفتُ اليوم أخدم الناس وأداوي جراحهم". إنّها شهادة على أنّ التعليم لا يُقاس بالراتب ولا بالوسائل، بل بالأثر في الإنسان.
أيّها المعلّمون، أنتم صُنّاع الوعي، وبُناة الرجاء، وحُرّاس الحقيقة. أنتم الورد الذي يزيّن حياتنا، والنبع الذي لا ينضب في دروب أبنائنا. وفي يومكم هذا، لا نقول لكم شكرًا فحسب، بل نقول: أنتم البذرة التي زرعها الله لتُثمر في قلوبنا علمًا وحياةً ونورًا.
فلنرفع في هذا الشهر، شهر الورد، صلاةً من أجل كلّ معلّمٍ حمل الطباشير أو الكتاب، وأضاء بعلمه شمعةً في ظلمة، وزرع بكلماته حلمًا في قلب صغير. وليبقى التعليم في حياتنا رسالةً مقدّسة، تُجدّد وجه الأرض، وتُعلي شأن الإنسان، وترفع الوطن إلى حيث يستحق.
المصدر: الأب سالم لولص، موقع أبونا.