تأملات من الأرض المقدسة
عيد ميلاد بطابع مختلفعند الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة قبل نحو شهرين، سادت آمال واسعة بأن تكون الحرب قد بلغت نهايتها، وأننا دخلنا مرحلة جديدة تسير بالمنطقة نحو حلٍّ سلمي. غير أنّ تكشّف تطورات الواقع، واستمرار السيطرة العسكرية على مساحات واسعة من قطاع غزة مع إعادة رسم الحدود، وتواصل أعمال العنف ومصادرة الأراضي والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، كلّها عوامل عمّقت لدى الفلسطينيين شعورًا عامًا بأن العدالة ما زالت بعيدة المنال، وأن الجهود الدولية تميل إلى احتواء الصراع أكثر مما تسعى إلى معالجته جذريًا. ومن هنا، وبكل أسف، يبدو أن المسار الحالي، ما لم يشهد تحوّلًا حقيقيًا وجادًا، لن يخرج عن إطار المحاولات السابقة، وسيبقى خطر تجدّد العنف قائمًا مع مرور الوقت.
وكان من المفترض أن تحمل العاصفة المطرية الأخيرة بارقة خير لمنطقة تعاني شحًّا حادًا في المياه، إلا أنّ مشاهد المياه التي غمرت غزة، ومعاناة نحو مليوني إنسان من النازحين داخليًا يعيشون فعليًا في الشوارع المغمورة من دون مأوى لائق، كان تذكيرًا صارخًا بأن المأساة لم تنتهِ بعد. كما أنّ القيود المفروضة على إدخال مستلزمات الإيواء، والمعدات اللازمة لإزالة الأنقاض، ومواد البناء، إضافة إلى الحدّ من كميات المساعدات الإنسانية، تكشف عن صعوبة تمكين الناس من البدء بإعادة بناء حياتهم بكرامة. وفي الضفة الغربية، تعكس المشاهد اليومية، من توسّع عمراني متسارع وحواجز ونقاط تفتيش عديدة، واقعًا قاسيًا يختلف كثيرًا عمّا يُتداول في الخطابات الدولية حول السلام، فيما تتزايد الأعباء على حياة الناس ومعاناتهم.
ومع ذلك، ورغم قتامة هذا المشهد، يبقى للرجاء مكان حين نتأمل في الخدمة التي نعيشها ونقوم بها. ففي كل موضع، تبرز علامات حياة وإنجازات صامتة. إخوتنا وأخواتنا العاملون في الخدمة الكنسية يواصلون رسالتهم بأمانة وحيوية، من خلال حياة رعوية نشطة، وأنشطة تشمل المؤمنين من مختلف الأعمار، وبرامج تنشئة روحية منظّمة يقدّمها مركز التنشئة المسيحية ومركز بيلسان للإرشاد وراعوية العائلة المشترك، إلى جانب جهود مكاتب التعليم المسيحي والليتورجيا. إن تنشئة الإيمان، بأبعادها الرسمية وغير الرسمية، تبقى السبيل الأعمق لترسيخ الرجاء في قلوب الناس، ومساعدتهم على الثبات في أرض مثقلة بالتحديات.
كما تشكّل مدارسنا فضاءً حيًا تتجسّد فيه القيم المسيحية والإنسانية، حيث يعيش نحو 19,000 طالب وطالبة في 44 مدرسة في أنحاء المنطقة خبرة العيش المشترك، القائمة على الحوار والاحترام المتبادل والتعايش والغفران، بدل منطق العنف والكراهية. ولا يسعنا هنا إلا أن نثمّن الدعم السخي من فرق فرسان القبر المقدس في أميركا الشمالية عبر حملة «ضمان المستقبل»، التي أتاحت تنفيذ أكثر من ستين مشروعًا لتحسين البنية التحتية وجودة التعليم في مدارسنا. ونذكر بامتنان خاص قرار غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، إعفاء ديون الأقساط المدرسية المتراكمة عن طلاب مدارسنا بروح سنة اليوبيل، ما جلب تعزية حقيقية لآلاف العائلات المتألمة. وهكذا، نؤمن بأننا، معًا، نصنع فرقًا ملموسًا عبر رسالة التعليم، من أجل مستقبل أفضل للأرض المقدسة وسكانها جميعًا.
وفي المجال الإنساني، شهدت البطريركية اللاتينية توسّعًا ملحوظًا في برامجها منذ بداية الحرب، شمل المساعدات الإنسانية المباشرة، إلى جانب مبادرات لخلق فرص عمل وتوليد دخل كريم. ففي غزة، انصبّ الاهتمام على مرافقة الجماعة المسيحية الصغيرة في محنتها، وتأمين احتياجاتها الأساسية من غذاء ودواء ومأوى، والأهم من ذلك المرافقة الروحية، من خلال حضور كهنة وراهبات يقيمون في الرعية، يواكبون الناس، ويشدّدون عزيمتهم، ويزرعون الرجاء في قلوبهم. وعندما نطالع منشورات الأب جبرائيل، يبدو لنا وكأن حياة رعوية شبه طبيعية مستمرة، مع قداديس يومية وأنشطة الرعية تشمل جميع الفئات العمرية، علامة للصمود وللإيمان وهم بحق شهود أمانة وبذلٍ صامت في قلب الألم. ولم تقتصر هذه الخدمة على أبناء الجماعة المسيحية وحدهم، بل امتدت لتشمل مئات الآلاف من المحتاجين،بل قمنا منذ بداية الحرب بتوزيع المساعدات على أكثر من نصف مليون شخص، شملت مواد غذائية ومستلزمات نظافة وأدوية، في شهادة حيّة على قدرة جماعة صغيرة على التخفيف من معاناة هذا العدد الكبير من البشر.
وفي الضفة الغربية، استمرّت الاستجابة الإنسانية الطارئة بوتيرة ثابتة، وتنوّعت أشكالها لتشمل مساندة مباشرة للأسر المتضررة، ولا سيّما في ظل التراجع الحاد في قطاع الحج والسياحة، وما رافقه من فقدان واسع لفرص العمل. ومع تزايد أعداد العاطلين عن العمل، عملنا على تكثيف جهودنا، فشملت مبادراتنا تقديم قسائم غذائية، ومساعدات نقدية، ودعمًا لتسديد فواتير الخدمات الأساسية، ومساندة للإيجار، إضافة إلى دعم صحي وتعليمي. غير أنّ الأولوية القصوى كانت لبرامج خلق فرص العمل وتوليد الدخل، حيث أُتيحت مئات، بل آلاف، الفرص من خلال برامج تدريبية وإدارة مشاريع، بما وفر دخلًا كريمًا وحافظ على كرامة الإنسان. وإننا نعتزّ بهذه الرسالة، ونلتزم بمواصلتها ما دامت الحاجة قائمة والإمكانات متوفرة.
ويأتي عيد الميلاد هذا العام بطابع مختلف. فبعد انقطاع دام منذ عام 2022، عادت أشجار الميلاد لتُضاء في ساحات المدن والبلدات، وعادت الأسواق والاحتفالات والعروض الفنية. وحتى في غزة، ترتفع شجرة ميلاد في رعية العائلة المقدسة كعلامة رجاء وسط الألم. كما نشهد عودة متواضعة للحجاج، تعبيرًا عن تضامنهم، وتجددًا في الحياة الاقتصادية. ومع إدراك الجميع أن الطريق لا يزال طويلًا وصعبًا، يبقى الرجاء حيًا بأن يحمل زمن الميلاد عزاءً جديدًا لشعبنا المتألم، وأن يقود إلى سلام حقيقي طال انتظاره لكل من يعيش في هذه الأرض المقدسة ويعتبرها وطنه.
نرفع صلواتنا، ونتبادل أطيب التمنيات بعيد ميلاد مجيد وسنة جديدة مباركة، راجين أن يكون عام 2026 زمنًا تتحقق فيه روح هذا العيد عدالةً وسلامًا دائمين.
سامي اليوسف
الوكيل العام
15 كانون الأول 2025المصدر: البطريركية اللاتينية القدس